إعداد : منى أبو النصر
«الفن
هو المعبر عن عالم الإنسان، ولهذا فمن الأدباء من أسهم بفنه فى معركة
الآراء العالمية، فانقلب الفن على يديه عدة من عداد الكفاح فى ميدان
الجهاد العالمى، لا يمكن أن يكون الفن نشاطا غير جدى».
هكذا
قال أديب نوبل نجيب محفوظ فى عمله الروائى الفريد «السكرية» فكان بفنه
العفى من الأدباء الذين أسهم فنهم فى معركة الآراء العالمية ،حسب تعبيره
الروائى.
فيما
يلى بعض الزوايا التى نظر منها الغرب لنجيب محفوظ، التى يمكن إعادة
قراءتها فى ذكرى رحيل شيخ الرواية العربية التى تحل نهاية هذا الشهر.
دراما الاغتيال
«حياة
محفوظ كانت فريدة خالية من أى تحولات درامية، إذا ما استثنينا محاولة
الاغتيال التى تعرض لها عام 1994 التى نجا منها»، هكذا قالت صحيفة
الجارديان البريطانية فى قراءة لسيرة أديب نوبل الحياتية، وهى المحطة التى
كان التوقف عندها يقترن كثيرا بالحديث عن رواية «أولاد حارتنا» التى تتابع
الصحيفة قولها عنها «فى عام 1957 بدأ محفوظ كتابة «أولاد حارتنا» التى
ترجمت إلى الإنجليزية تحت عنوان «أولاد الجبلاوى» وهى الرواية التى قادت
إلى صراع بين محفوظ والمؤسسات الدينية فى مصر، بعد أن نشرت مسلسلة فى
صحيفة الأهرام الحكومية المصرية، فاعترض الأزهر على طبع العمل فى كتاب،
باعتبار أن المجتمع المصرى له حساسيات دينية ينبغى أن تراعى، ومع الوقت
طبع العمل فى بيروت، وبعد سنوات عدة كانت الرواية هى السبب وراء تعرضه
للاغتيال».
أما
مجلة «التايم» الأمريكية فنشرت تقريرا قالت فيه «كان نجيب محفوظ مسلما
ورعا، وعلى الرغم من أنه انتقد سلمان رشدى لهجومه على الإسلام فى روايته
«آيات شيطانية» فإنه دافع بقوة عن حق الروائى البريطانى ــ الهندى فى
التعبير عن أفكاره، وبعد سنوات عدة أقدم أحد المتطرفين على طعن محفوظ فى
رقبته، ولكنه نجا من الحادث».
مسألة
اصطدام محفوظ بالمؤسسة الدينية طرحته أيضا فى «الإندبندنت» التى اعتبرت
«أولاد حارتنا» رواية مجازية حاول فيها محفوظ توثيق قصة الخلق وتطوره
الروحانى والمعرفى من خلال المرور على الأديان الثلاثة الرئيسية اليهودية
والمسيحية والإسلام، وتابعت أن محفوظ كان يريد أن يدرس الصوفية فى الفلسفة
الإسلامية، ولكنه قرر أن يركز فى الكتابة الإبداعية ومع ذلك فإن أفكاره
الفلسفية وتساؤلاته الصوفية كانت تسيطر على أعماله الأدبية.
الثـــورة
ذهب
مقال نقدى بصحيفة «الإندبندنت» البريطانية إلى أن ثورة يوليو 52 دفعت نجيب
محفوظ إلى التوقف لمدة خمس سنوات عن الكتابة فى فترة كانت أشبه بالتأمل،
وتابع أن الثورة بما طرحته من مستجدات همشت الموضوعات والتيمات الثلاث
الرئيسية التى كانت تستحوذ على النصيب الأكبر من اهتمام محفوظ وهى
الملكية، والاحتلال البريطانى، وفساد النظام السياسى، فكانت كتابته متأثرة
إلى حد بعيد برغبته فى خلق وعى عام بضرورة الحاجة إلى إحداث تغييرات
اجتماعية وسياسية، وفجأة، وجد أن التغيير أخذ مجراه بسرعة كبيرة، حتى إنه
استشعر أن طموحاته الرئيسية وجدت ضالتها، ومن ثم كان يجب أن يعيد ترتيب
أولوياته فى الكتابة، وكانت هذه عملية صعبة وتحتاج إلى وقت ومشقة للتوصل
إلى اختلافات جذرية فى تيمات الكتابة والنصوص، وفى هذه المرحلة المؤقتة
ركز بصورة أكبر على كتابة سيناريوهات الأفلام.
تابع
المقال أن محفوظ كان يبحث عن منظور يطرح من خلاله الاتجاه الجديد الذى
تسير فيه مصر بعد حصولها على الاستقلال، وكانت نصيحته الواضحة لقادة
الثورة أن يتبنوا اتجاهات أكثر ليبرالية ومنطقية لمواجهة الواقع الاجتماعى
السياسى المعقد فى مصر، ولكن هذه النصيحة لم يلتفت إليها أحد، الأمر الذى
اعتبره المقال أنه «استفز» محفوظ ليبدأ كتابة سلسلة تضم 6 روايات جديدة،
التى خرجت مع عام 1960 واعتبرها النقاد تدشينا لمرحلة جديدة فى تطور
الكتابة الواقعية لدى نجيب محفوظ.
كانت
هذه الروايات سياسية من الطراز الرفيع، تؤكد على ضرورة حرية التعبير
وخطورة غيابها على المجتمع كله، وأضاف المقال «يمكن اعتبار هذه الروايات
وثائق تجسد إحباط محفوظ وجيله فى عهد عبدالناصر».
هذه
«الوثائق» تجسد ملامح التحدى والاحتفاء وتمجيد روح التمرد كما ظهر فى
«اللص والكلاب» عام 1961، وتسليط الضوء على قسوة التغيير والتعاطف مع
ضحاياه كما فى «السمان والخريف» 1962، أما البحث عن الخلاص فكان تيمة
رئيسية لهذه الروايات التى وصلت إلى ذروتها فى «الطريق» 1964، و«الشحاذ»
1965، واعتبر المقال أن روح الدعابة لدى محفوظ التى تألقت فى «ثرثرة فوق
النيل» 1966 جعلت من الرواية أداة للنقد اللاذع فى مواجهة الفساد والظلم.
أشار
أيضا إلى رواية «ميرامار» التى قدمت تحليلا للوضعين السياسى والاجتماعى
لمصر قبيل هزيمة 67، هذه الهزيمة التى اعتبرت «الإندبندنت» أنها تسببت فى
دخول محفوظ فى طور جديد من الصمت، وبدلا من أن يتجه من جديد لكتابة
سيناريوهات الأفلام، صب طاقته فى كتابة القصص القصيرة، التى اتسمت
باتجاهها إلى الرمزية وأحيانا الخيال، فى محاولة لتجسيد التعقيد والغموض
لهذه الأحداث غير المتوقعة التى تلت أحداث هزيمة يونيو 67، واعتبرت
الصحيفة البريطانية أن رواية «الكرنك» 1971 التى كتبها مباشرة عقب وفاة
الرئيس جمال عبدالناصر سجلت نقدا حادا وشديد القسوة فى تصويرها للنظام
البوليسى ومسئوليته عن تدمير روح الجيل الجديد وحماستهم من أجل الدفاع عن
بلادهم.
الثــلاثيـــة
«ثلاثية»
محفوظ هى العمل الأبرز الذى يحتفى به النقاد فى الغرب، ويطلقون عليه
ثلاثية القاهرة، التى يعتبرونها علامة فى تاريخ كتابة الرواية لا تقل عن
الأعمال الأدبية الكلاسيكية الأكثر شهرة فى العالم، فحسب الناقد البريطانى
سكوت ماكلويد الذى كتب عن محفوظ فى مجلة التايم عقب وفاته «فى ثلاثيته
التى نشرت عام 1956 أرّخ محفوظ لثلاثة أجيال لعائلة مصرية فى العقود التى
مهدت لثورة 1952».
أضاف
ماكلويد أن نجيب محفوظ استطاع فى هذا العمل أن يفجر بأدبه الرفيع مقارنات
حقيقية مع أعمال أدباء غربيين عظماء مثل فيكتور هوجو و ليوى تولستوى
وتشارلز ديكينز، الأمر الذى جعل حصوله على جائزة نوبل الرفيعة فى الآداب
عام 1988، أمرا جديرا به ساهم فى لفت الانتباه أكثر إلى هذا الرجل، الذى
كان معروفا بالفعل وذائع الصيت حتى قبل حصوله عليها فى المنطقة العربية
كأب للرواية العربية.
أما
رائد المترجمين من الإنجليزية إلى العربية الشهير دينيس جونسون ديفس، فقد
كتب فى صحيفة الجارديان عن الثلاثية وقال: «فى 1956 كتب محفوظ «بين
القصرين» وهى الجزء الأول من ثلاثيته الشهيرة التى تبعها بعد ذلك بكل من
«قصر الشوق» و«السكرية»، وتعاملت الثلاثية تلك مع ثلاثة أجيال لعائلة
السيد أحمد عبدالجواد التى امتدت من عام 1917 وحتى ما قبل نهاية الحرب
العالمية الثانية، عندما كانت مصر تناضل من أجل استقلالها من الحكم
الإنجليزى».
تابع
الأمريكى ديفيس قوله إن الثلاث روايات ترسم تفاصيل دقيقة ليوميات عائلة
مصرية متوسطة وتسجل للتاريخ، كما لم يفعل أى كتاب من قبل، نمط حياتها الذى
تأثر بالغرب وتعرض لضغوط من الحياة الحديثة، وتأثيرات الحياة السياسية
وتشابكها مع حياة الكثير من شخصيات الثلاثية، فظهرت فى الثلاثية أطياف
السياسة فى مصر فى ذلك الوقت كحزب الوفد وهو الحزب الذى ارتبط به نجيب
محفوظ شخصيا، والحركة الاشتراكية وبدايات الأصولية الإسلامية.
واعتبر
ديفيس أن شخصيات الثلاثية وأحداثها تم غزلهما بمهارة فائقة، وأنها فى حد
ذاتها عمل وإنجاز ملحوظ استطاع به محفوظ أن يحقق للرواية العربية وجودا
مهما على الساحة الأدبية، فالثلاثية أصبحت سريعا ضمن أفضل المبيعات فى
العالم العربى، ومن لم يقرأ الرواية فقد استمتع بشخصيات الثلاثية من خلال
أفلام السينما التى جسدت هذه الروايات، علاوة على أنها وجدت طريقها خارج
مصر ففى الولايات المتحدة حققت ترجمة الثلاثية مبيعات فاقت 250 ألف نسخة.
وفى
مقال نقدى بصحيفة «الإندبندنت» البريطانية اعتبر أن الثلاثية استطاعت أن
تطرح نماذج اجتماعية وفلكلورية وحكايات وحكما شعبية وأمثالا شائعة، علاوة
على تجسيد التيارات السياسية الخفية فى النصف الأول من القرن العشرين، كما
أنها عكست التطور الثقافى والسياسى فى المجتمع المصرى قبل الثورة، والفوضى
التى أحدثها الاحتلال البريطانى ،كما أشار التقرير إلى ما وصفها بالخريطة
التفصيلية للحياة السياسية فى مصر التى استطاع محفوظ رسمها فى روايات
ثلاثيته، علاوة على قدرته على كشف الصور النمطية للعلاقات والمشاعر
والأدوار فى المجتمع المصرى، ودللت فى ذلك على شخصية أحمد عبدالجواد أو
«سى السيد» الذى استمد محفوظ الكثير من ملامحه من شخصية والده، وصوّر من
خلاله صورة فذة لرب العائلة، ولفت التقرير إلى أن هذه الشخصية عندما
جسدتها السينما وعرضت بعدها فى التليفزيون تطلع إليها الجمهور بكثير من
الحنين والسحر والإعجاب.
وتابع
التقرير أن موت أحمد عبدالجواد فى نهاية الثلاثية وميلاد طفل جديد كان
رمزا مهما أراد به محفوظ أن يلفت إلى نهاية عهد وبداية عهد آخر، لاسيما أن
نهاية هذه الثلاثية تزامنت مع ثورة 52.
نوبــــل
كتب
المترجم الكبير دينيس جونسون ديفيز فى الجارديان البريطانية بعد وفاة نجيب
محفوظ رثاء قال فيه «أديب نوبل الذى قدم الرواية العربية إلى العالم
الغربى».
وقال
إن محفوظ كان أحد أبرز الرموز الأدب العربى، وأن الأدب العربى المعاصر حقق
تميزا عالميا بعدما حاز محفوظ جائزة نوبل عام 1988، وأضاف أنه من الصعب أن
نذكر التحول الدرامى الذى غير حالة أى فائز على صعيد الكتابة مثلما حدث
لمحفوظ، ولفت إلى أنه منذ أن عرف ككاتب فى العالم العربى بالإضافة إلى عدد
من المستشرقين، حصل على اهتمام العالم كله، فبين عشية وضحاها اهتمت به دور
النشر الأمريكية وأصبح كاتبا عالميا ارتبط اسمه بقوائم أفضل الكتب مبيعا،
وترجمت رواياته إلى العديد من اللغات الأجنبية.
يضيف
المترجم الأمريكى أن نوبل لم تغير بما منحته له من شهرة أو من قيمة مادية
فى حياته من شىء، فقد استمر يعيش فى منزله بالعجوزة مع زوجته وابنتيه كما
لم يغير ذلك من روتين حياته شيئا، فقد استمر حتى يوم مماته رجلا شديد
التواضع له ابتسامة وخفة ظل التى يتمتع بها المصريون، وكتب عن نشأته فى حى
الجمالية وهى مدينة قاهرية قديمة، ووالده الذى كان يعمل موظفا بسيطا،
وقضائه لأول سنوات حياته فى مناخ أقرب إلى مناخ العصور الوسطى المميز
بحواريه الضيقة ومبانيه العريقة، وقال إن هذه الملامح أصبحت جزءا من وعيه
التى استدعاها فى رواياته التى قدمها فى مطلع تجربته، لا سيما فى الثلاثية
التى حققت الجانب الأكبر من شهرته فى العالمين العربى والغربى.
ظلت
مجلة «التايم» الأمريكية تحتفى بكلمة محفوظ بعد حصوله على نوبل التى وصف
نفسه فيها بأنه «ابن حضارتين» وقال «فى يوم ما سيختفى الهرم الأكبر، ولكن
سيبقى الصدق والعدل طالما بقت البشرية وبقى ضميرها الحى».
أما
صحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأمريكية فقد قالت فور حصول محفوظ على جائزة
نوبل «يجب الإشارة إلى مدى مساهمة نجيب محفوظ فى الرواية العربية، فمنذ أن
بدأ خطواته الوليدة فى الرواية العربية، استطاع تحقيق قفزات ضخمة فيها عن
طريق دأبه وصبره وبعد نظره ومنهجيته وهى الأمور التى أعانته على التعبير
عن الأدب المعاصر، ليصل الى قاعدة عريضة من القراء فى العالم العربى، وفضل
أن يستخدم اللغة العربية الفصحى فى كتابته للتعبير عن مدينته وتفاصيلها
المحلية، الأمر الذى يجعل فوزه بنوبل اعترافا عالميا بأدب نجيب محفوظ».